طولكرم - خاص قدس الإخبارية: منذ حوالي أسبوع شرعت قوات الاحتلال الإسرائيلي بأعمال تجريف وتوسعة طرق وتعبيد داخل مخيّمات طولكرم جنين، وهي خطوة تهدف إلى إعدام فكرة عودة السكّان النازحين من المخيمات منذ نحو 11 شهرًا، وتمهيد الطريق نحو طمس هوية المخيم كحيّ للاجئين، وتحويله إلى إطار مدني جديد تحت رقابة الاحتلال الأمنية، بما يفتح الباب أمام تهجير دائم ومحاولة إلغاء قضية العودة.
بهذه الإجراءات تُمهّد سلطات الاحتلال لما يشبه "ضمّ" هذه المناطق، وإعادة تعريف سكانها كمقيمين بلا حقوق لجوء، وسط عدم وجود أفق لإنهاء العدوان المستمرّ في مخيّم جنين لليوم الـ 326 على التوالي، ولليوم الـ 320 في مخيّمات طولكرم.
ونزح خلال العدوان من مخيّمات "مخيّم طولكرم، ومخيّم نور شمس، ومخيّم جنين" أكثر من 55 ألف نازح يعيشون في ظروف معيشية صعبة، دون توفير الحدّ الأدنى من مقوّمات الصمود والإغاثة لآلاف العائلات التي فقدت منازلها، وسط تساؤلات عن مصيرهم ومستقبلهم وإمكانية عودتهم للمخيّمات وشكل الدعم الذي يتلقاه اللاجئون النازحون.
وتتفاقم معاناة النازحين في محافظة طولكرم في ظل غياب حلول حكومية شاملة منذ موجة التهجير التي حلّت بهم، إذ تعيش نحو 1907 عائلات في شقق مستأجرة موزّعة على مختلف مناطق المحافظة، وسط تراكم ديون باهظة على النازحين، وارتفاع معدلات البطالة في صفوفهم، وفقدان مصادر الدخل، بحسب ما يقول نائب رئيس اللجنة الشعبية في مخيّم نور شمس، يوسف فنادقة في حديث مع شبكة قدس الإخبارية.
وعلى الرغم من أن الحكومة تعهّدت منذ مايو/أيار الماضي بتغطية الإيجارات شهريًا، فإن التنفيذ بقي محدودًا، ولم تحصل غالبية العائلات على أي دعم منذ بداية النزوح، بينما تُستثنى العائلات التي تتلقى مساعدات من "الأونروا" أو من مؤسسات دولية من مخصصات المحافظة، وفق فنادقة.
ويوضح أن ما يزيد من وطأة الأزمة استمرار استحالة إيجاد حلول سكنية بديلة، إذ كانت الجهات الرسمية قد أعلنت في أبريل الماضي نيتها توزيع كرفانات للنازحين، غير أن التنفيذ اقتصر على عدد محدود منهم، بسبب اشتراط امتلاك قطعة أرض لكل نازح، وهو شرط لا يتوفر لدى معظم العائلات. وفي المقابل، يعيش جزء من النازحين في مدارس، وبعضهم في كرفانات أو حتى داخل مركبات، بينما تتعرض عائلات أخرى لاستغلال في أسعار الإيجارات، في وقت تكاد التسهيلات والخدمات البلدية تكون معدومة، ومع دخول فصل الشتاء تتضاعف صعوبة الأوضاع الإنسانية.
ويبرز ملف المنازل المهدّمة باعتباره الأكثر قسوة وتعقيدًا، إذ هدم الاحتلال 307 بنايات بالكامل، تضم كل منها من منزلين إلى أربعة منازل، ما يعني تدمير ما لا يقل عن ألف شقة سكنية، إضافة إلى مئات المنازل المتضررة جزئيًا، ويصل عددها إلى ما لا يقل عن ألف شقة أخرى. وتشير التقديرات إلى أن إعادة بناء هذه المنازل غير ممكنة في المدى القريب، ما يطرح تساؤلًا ملحًا حول مصير هذه العائلات، وهو سؤال ينتظر الأهالي أن تجيب عنه الحكومة خلال اللقاء المرتقب مع وزيرة الشؤون الاجتماعية يوم الاثنين المقبل، كما يوضح فنادقة.
وفي السياق ذاته، يتحدث فنادقة عن واقع أكثر تعقيدًا داخل المخيم، حيث شرعت آليات الاحتلال، منذ الرابع من الشهر الماضي، في تعبيد الطرقات في مواقع المنازل التي فجّرها وهدمها خلال الاقتحامات الأخيرة، ضمن مسار يعيد تشكيل البنية الداخلية للمخيم وبما يخدم مخططات السيطرة. ويشير فنادقة إلى أن الاحتلال وضع خمسة شروط أساسية مقابل السماح بعودة الحياة الطبيعية، أبرزها منع أي أعمال تعبيد أو تغيير في معالم الطرق دون موافقته المسبقة، ونشر حواجز تابعة للأجهزة الأمنية الفلسطينية داخل المخيم ومداخله، وافتتاح مقرّ شرطة داخله، ومنع دخول منظمات الإغاثة الدولية.
ويحذّر فنادقة من أن هذه الشروط تمثل محاولة لفرض نموذج أمني وإداري جديد داخل المخيم، بما يحدّ من قدرة سكانه على إدارة شؤونهم، ويُبقي المنطقة تحت رقابة إسرائيلية مباشرة، في وقت يعاني فيه المخيم من أوضاع اقتصادية خانقة، إذ تشير تقديرات اللجنة الشعبية إلى أن نحو 90% من النازحين في مخيم نور شمس عاطلون من العمل ولا تتوفر لهم أي فرص تشغيل.
وفي ظل هذا الواقع، تبرز مجموعة مطالب أساسية يرفعها النازحون إلى الحكومة، في مقدمتها تغطية الإيجارات عن 1907 عائلات بشكل عاجل، ووضع آلية واضحة لمعالجة أوضاع أصحاب البنايات التي هُدمت بالكامل واستُبدلت بشوارع جديدة، إلى جانب توفير حلول إنسانية عاجلة قبل تفاقم الأزمة مع فصل الشتاء.
أما في مخيّم طولكرم، يؤكد مسؤول لجنة الطوارئ فادي المروح، في حديثه لـ"شبكة قدس"، أن همّ النازحين اليوم لم يعد مقتصرًا على الحصول على طرود غذائية، رغم الحاجة الماسّة إليها، بل بات يتمحور حول مصير عودتهم إلى المخيم بعد أشهر من التهجير القسري. ويشير إلى أن العائلات النازحة لا تتلقى أي مساعدة في تغطية الإيجارات من الجهات الدولية أو الرسمية، ما دفع كثيرين منهم إلى ترك المنازل التي استأجروها بسبب العجز عن السداد، واللجوء إلى أقارب أو مدارس أو بيوت متهالكة في ظروف معيشية صعبة.
ويضيف المروح أن غالبية سكان مخيم طولكرم كانوا يعتمدون على العمل داخل الخط الأخضر، ومع بدء الحرب على غزة فقدوا مصدر رزقهم الوحيد دون توفر بدائل تشغيلية، ما فاقم من حجم الأزمة المعيشية والخسائر التي لحقت بالعائلات. ويوضح أن هذه الظروف دفعت بعض الأسر إلى إخراج أطفالهم من المدارس لعدم القدرة على تغطية المصاريف اليومية، فضلًا عن عدم قدرة طلاب الجامعات على استكمال تعليمهم. كما تضطر عدة عائلات إلى السكن في شقة واحدة، إذ تضم بعض المنازل أربع إلى خمس عائلات، في أوضاع لا تلائم الحد الأدنى من المعايير الصحية والمعيشية.
ويشير المروح إلى أن الإيجار الذي دُفع للعائلات منذ بداية الأحداث كان محدودًا جدًا، إذ حصل نحو 70% من النازحين على دفعة واحدة فقط، ثم تُركوا بعدها لمواجهة مصيرهم وحدهم دون أي دعم إضافي. ويضيف أن لجنة الطوارئ لم تتلقَ منذ خمسة أشهر أي طرود أو مساعدات لتوزيعها على السكان، فيما تراجعت نسب الدعم بعد شهر رمضان، وانخفضت منذ أبريل الماضي بنسبة تصل إلى 80% مقارنة بالسنوات السابقة.
وبحسب المروح، يضم مخيم طولكرم نحو 3170 عائلة نازحة يعيش بينها ما يقارب 22 ألف لاجئ، إلا أن الإمكانات المتوفرة لدى اللجنة لا تكفي لتلبية احتياجاتهم الأساسية، بدءًا من حليب الأطفال، مرورًا بالأغطية والفرشات اللازمة لفصل الشتاء، وصولًا إلى الأدوية التي يحتاج إليها الأطفال وكبار السن. ويؤكد أن العديد من هذه الأدوية باهظة الثمن ولا تتوفر لدى وكالة "الأونروا" أو وزارة الصحة، ولا يستطيع النازحون توفيرها من جيوبهم.
ويقول المروح إن اللجنة تتلقى يوميًا مئات الاتصالات من نازحين مهددين بالطرد من أماكن سكنهم المؤقت، أو من عائلات تعيش دون كهرباء أو مياه أو أغطية، أو عاجزة عن توفير الدواء للأطفال وحليب الرضع. ويضيف أن الغالبية العظمى من طلاب الجامعات لم يتمكنوا من متابعة تعليمهم خلال الأشهر الماضية بسبب الظروف الاقتصادية المعقّدة، فيما أبلغت الأونروا اللجنة بأنها قادرة على دعم اللاجئين فقط، أما النازحون فخارج طاقتها التشغيلية الحالية.
ويصف المروح المشهد اليومي في المخيم خلال ساعات الصباح بأنه أشبه بساحة حرب، إذ تتحول المنطقة بين السادسة والتاسعة صباحًا إلى ما يشبه ثكنة تدريب عسكري يسمع فيها إطلاق النار على الدوام، مع انتشار مكثّف لقوات الاحتلال ومركباتها في محيط المخيم.
ولا يتمكن السكان الاقتراب من المخيم، في ظل إغلاق كامل للمداخل وتشديد أمني يمنع الحركة نهائيًا. كما نشر الاحتلال سابقًا خرائط تُظهر خطًا أصفر يطوّق المخيم من جميع جهاته، ويحظر على أي شخص تجاوزه.
ويشير إلى أن كثيرًا من العائلات باتت مستعدة للعيش في خيام داخل المخيم نفسه، فقط من أجل العودة إلى بيئتها الأصلية، بعدما تحولت حياة النازحين خارجه إلى معاناة يومية بلا أفق واضح للحل.
ولا يختلف الحال في مخيّن جنين كثيرًا عن مخيّمات طولكرم، إذ يؤكد عضو اللجنة الشعبية لخدمات مخيم جنين، مؤنس غريب، في حديثه لـ"شبكة قدس"، أن المخيم يدخل فصل الشتاء في واحدة من أصعب مراحله، بعدما بات سكانه مشتتين في 33 قرية بمختلف أنحاء محافظة جنين، دون أي جهة أهلية أو رسمية تتولى احتضانهم أو تأمين احتياجاتهم الأساسية. ويشير إلى أن العائلات النازحة تعجز اليوم عن دفع إيجارات المنازل التي استأجرتها، إذ جرى تغطية الإيجارات خلال الأشهر الستة الأولى من التهجير بدعم رسمي ومدني، لكن الجهات كافة تنصلت لاحقًا من مسؤولياتها، تاركة آلاف العائلات في مواجهة مجهولة مع الأيام القادمة.
ويضيف غريب أن نحو 80% من نازحي المخيم عاطلون عن العمل منذ أشهر، فيما ينتمي الـ20% المتبقّون إلى فئة الموظفين في السلطة أو المؤسسات الأهلية، وهم أصحاب رواتب متدنية ومتقطعة في الآونة الأخيرة، الأمر الذي يجعل غالبية أبناء المخيم يعيشون حالة قاسية من الفقر والعوز. ويشير إلى أن جزءًا محدودًا فقط من احتياجات النازحين الأساسية جرى تلبيته من الجهات المعنية، بينما تبقى الفجوة الإنسانية واسعة جدًا مقارنة بحجم احتياجاتهم الفعلية.
ويشدّد غريب على أن الوعود التي يتلقاها النازحون من الجهات الرسمية والمجتمعية لا تتجاوز حدود الكلام، ولا تفضي إلى أي تحسّن ملموس، خصوصًا في ظل اقتراب ذروة البرد وتحوّل الأوضاع المعيشية إلى أزمة حقيقية، إذ تفتقر مئات العائلات إلى الأغطية والمستلزمات الأساسية لفصل الشتاء.
ويذكّر بأن الحكومة طرحت خلال أبريل الماضي فكرة تخصيص أراضٍ في بعض المناطق لنصب كرفانات للنازحين، إلا أن الفكرة واجهت رفضًا شعبيًا لأنها قد تفتح الباب لإنشاء مخيم بديل عن مخيم جنين، قبل أن يأتي الرفض الحاسم من الاحتلال الذي -على حدّ قوله- لا يريد رؤية تجمع سكاني واحد لأهالي مخيم جنين، ويفضل بقاءهم مشتتين في مختلف المناطق.
ويشير غريب إلى أن نحو 50% من منازل المخيم دُمّرت كليًا أو جزئيًا، وأن الاحتلال لا يرغب -وفق تعبيره- في عودة أي من السكان إلى منازلهم المهدّمة أو إعادة إعمارها، ما يعكس توجهًا واضحًا لإلغاء قضية اللاجئين في جنين، محذرًا من أن نجاح هذا المخطط في المخيم قد يفتح الباب لتكراره في سائر مخيمات الضفة الغربية.
ويؤكد في ختام حديثه أن ما تبقى من منازل قائمة داخل المخيم لا يصلح للسكن، في ظل غياب البنية التحتية، وانتشار الركام، وفتح طرق جديدة، ووقوع أحداث أمنية متواصلة جعلت المخيم أشبه بمنطقة منكوبة تغيّرت ملامحها بالكامل



